في أحد صباحات عام 1889 من القرن التاسع عشر في مدينة البصرة ..
ارتجفت
سكينة الليل بطلوع الفجر ، فتداخلت أشعة بنفسجية لتكسو قباب وكنائس مدينة
البصرة ، ولا زالت هناك امرأة لم تذق طعم الرقاد وهي تنظر لطفلها الجائع
بين يديها ، فكأنها كانت تتمنى أن تنساب مع دقائق الأثير وتنتهي رحلة آلمها
، كانت تنظر لوحيدها والدموع تتألق في محجر عيونها ، وتارة أخرى ترفع
عيونها صوب السماء وتنادي قائلة .. يارب السماوات والأرضيين ها قد طلعت شمس
الصباح باكية فوق الجداول والوديان وحاكت بخيوطها وشاحاً ذهبياً ، وتمازجت
رؤى الحياة مع أنفاس الوجود ، وما زلت أتأمل لقاء الأمل الذي حبته روحنا
في حضرة أعتابك ، ياربي ما أقسى الحياة في ظلال الموت ، بل ما أقسى بنو
البشر ، الذين ينامون على آسرتهم الوثيرة ، وقلوب الفقراء تتضور جوعاً ،
ياربي قد جعلت الشحرور يحاكي بنغماته سحر الطبيعة فوق الغصون، ونفخت في فم
البزاة تغريدة الجمال ، وتلونت الحدائق بأشراقة الزهور ، وأرسل النسيم
قبلاته إلى ثانويات الهواء ، ونث الندى فوق الورد عذب طيبه .. كل هذا حدث
ياربي بقدرتك التي وسعت كل شيء ، فامنحني ياربي الصبر والتجلد ، وسد فاقتي
وأشبع أبني الجائع .. فأنه ما من رجاء تطأه أنوالي وتضرعاتي سوى بابك
العظيم ..ثم أجهشت بالبكاء وتساقطت دمعات سخينة فوق وجنات طفلها ، فارتعشت
شفتاه وفتح عيناه ، وقال بصوت مملوء بالبراءة ، أمي أني جائع ؟ احتضنت الأم
وحيدها محاولة بذلك الولوج إلى أقصى بقاع كبده المحترقة لترتشف غليلها ،
أرادت جاهدة أن توهمه بالصبر ، لكنها ظلت تبكي ، مرت ساعات وسطعت شمس
الصباح حتى أنتثر ضياؤها فوق أزقة البصرة وعانقت شوارعها أحلام العاملين ،
كان باشا سعيد محافظ البصرة آنذاك سائراً في شوارع المدينة مستكشفاً أحوال
رعيته ، بعربته التي أيقظت حركة حرتقة خيلها القاعدين والواقفين ، ثم أخذ
يطوف في أرجاء المدينة لساعات ، حتى توقف فجأة أمام منزل حقير منفرد وسط
تلك المحلة ، فصاح على سائق العربة ، لماذا توقفت هنا ، فأجابه قائلا ، يا
سيدي .. الخيول هي من أوقفت نفسها ، فهلا عذرتني ، فقال الباشا سعيد ، لا
بأس إذن أستمر بمسيرك ، ثم نظر الباشا صوب ذلك المنزل الحقير بلمحة خاطفة،
فرأى منزلا حامت أخيلة البؤس حوله وطوقته بنقاب الوحشة والفاقة ، فصاح على
السائق أنتظر قليلاً ، دعني أرى ماذا يوجد داخل هذا المنزل ...، أقترب
الباشا وطرق الباب ، فخرجت امرأة يشيع عليها الوقار يقف بجانبها طفل صغير ،
قد أذبل الجوع عيونه وفند الحرمان أمانيه، فأرتعد إذ ذاك وخاف أن يقول
إليها بأنه الباشا ، فقال سيدتي أنا عطش فهلا سقيتني بشربة ماء ، توارت خلف
الباب وعادت بالماء وهي تخاطبه بلهجة ملؤها التقدير والاحترام ، أعذر
فاقتنا سيدي ، فلا نملك ما نقدمه إلى ضيفنا العزيز غير الماء ، فأطرق
الباشا رأسه خجلاً وخاطب المرأة بصوت حزين ، سامحيني أنت سيدتي ، لأني حاكم
ظالم ، إذ تركتك تعانين ، لم أكن أدرك بأن زوجك قد توفى وأعلن الشقاء
قدومه في دنياك إلا هاته الساعة عندما استفسرت عنك من جار لكم قد مر من هنا
قبل قليل .. سامحيني سيدتي ، لأني تركتك تتبوئي منصة الفقر ، أنا الباشا
بذاته ، أنا محافظ المدينة ، قد خلت نفسي عادلاً بينما كنت أظلم الناس
بجهلي وقلة معرفتي بكم .. ثم نظرت إليه نظرة محبة ، وقالت إليه : سيدي قد
استجاب الرب دعائي بعدما ناجيته هذا الصباح ، وها أنت تقف أمام بابي وترجو
مساعدتي ، أطلب العفو من الله سيدي ، فمن أنا لتطلب منها أن تصفح عنك ، مضت
ساعات حتى أصبح ذلك البيت مملوء بضحكات طفل صغير يرنو إلى الحياة بأمل
يعانق أعماق الوجود .